زينب عليها السلام صوت الخلود الحسيني

زينب عليها السلام صوت الخلود الحسيني
احمد الساعدي ـ التوافق


واقعة الطف الأليمة التي أحزنت العالم بأسره، وكانت في نفس الوقت نبراساً وطريقاً واضحاً لكل من يريد الحرية والعزة والنصر والخلود، فكربلاء وثورة الإمام الحسين عليه السلام، هي الثورة التي كانت ولا زالت باقية وخالدة فهي شمعة تضئ الطريق لكل من يسعى إلى التخلص من الاستبداد والظلم، وجسدت كل المفاهيم السامية، فأعطت درساً في الصبر والأخلاق والإيثار والتضحية وتقديم كل شيء من أجل رفع راية الحق ومشعل الحرية وإصلاح الأمة والمجتمع.

و شاركت أصناف الناس في تلك الواقعة، شارك الرجل والمرأة، الحر والعبد، والمسلم وغيره، الكبير والصغير.

فكان للرجال دور النصح والإرشاد مع القوم، كما كان لهم دور القتال والمواجهة العسكرية عندما لم ينفع من ذلك الجيش الأموي أسلوب النصح والوعظ.

كما كان للنساء دور واضح في واقعة كربلاء ، السيدة الحوراء زينب كان لها الدور الأبرز والأقوى في تلك النهضة الحسينية بعد مصرعه أخيها .

لقد علمت السيدة زينب سلام الله عليها الدنيا بأسرها معنى الصبر على الرزايا والمحن مهما عظمت وعظم وقعها، فلم تجزع ولم تهن بل بقيت كالجبل الأشم صامدة في وجه طاغية العصر يزيد الضلالة والظلم والطغيان بعد أحداث ملحمة الطف الخالدة.


فكانت الشريكة المثلى لهذه الثورة المعطاء، هذه المرأة العظيمة عاصرت أباها أمير المؤمنين عليه السلام لخمس وثلاثين عاماً كانت خلالها القريبة إلى قلبه والعزيزة عليه وكان هو الأقرب إلى نفسها والأشد تأثيراً عليها لذلك أخذت من شخصيته الشجاعة والفصاحة والعبادة، كما وأخذت منه سائر الفضائل والخصال الكريمة التي ورثتها عنه بعد أن تربت في أحضانه وتتلمذت على يديه طوال تلك الفترة.

لقد كان الإمام الحسين عليه السلام على علم ان ثورته تحتاج إلى من ينشرها ويبينها للعالم بعد مصرعه، فلهذا اختار أخته الحوراء زينب ان تكون معه شريكة في تلك الثورة، فهي التي خطبت وبينت للعالم أهداف الثورة وواقعة الطف، وكانت تحامي عن النهضة الحسينية من الأقاويل والإشاعات التي حاولت طمس معالم الثورة ومحوها، لكن زينب وقفت وبكل شموخ وصلابة ضد تلك المحاولات اليائسة.


فيمكن القول ان الثورة الحسينية مرة بدورين ومحورين مهمين، الأول تجسد في شخصية الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه، فكان هو القائد والمحامي والمحافظ على العيال والأطفال والنساء، وقد انتهى الدور الأول بعد مصرع الإمام الحسين عليه السلام، والثاني هو للحوراء زينب عليها السلام، والذي بدأ بعد مصرع سيد الشهداء، فعندما عزم أبو الأحرار على النزول إلى ساحة القتال، أودع العيال والأطفال وكل ما في المخيم إلى السيدة زينب عليها السلام، لكي تكون هي صاحب الدور ، وكان نعم الاختيار.

كان الموقف يتطلب من السيدة زينب ممارسة دورها الرسالي في الدفاع عن تلك الثورة والنهضة الخالدة.

لقد قادت السيدة زينب عليها السلام الثورة بكل عزيمة وثبات، فهي التي تخاطب أبن سعد عندما ضعف الإمام الحسين عليه السلام عن القتال ووقع على الأرض: ويحيك يا أبن سعد أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه" فلم يجبها عمر بشيء ، فنادت : ويحكم أما فيكم مسلم ؟ فلم يجبها أحد.

زينب والإعلام الحسيني


أي واقعة وحدث يحتاج إلى تغطية إعلامية، خصوصا إذا كان ذلك الحدث كبير، كحدث واقعة الطف ، يحتاج إلى وسيلة إعلامية قوية وموجودة في قلب الحدث لكي تبين للرأي العام، تلك الثورة ومبادئها والتعريف بها والدفاع عنها، وكشف الزيف والمحاولات التي حاولت طمس معالم تلك الثورة المباركة. فكانت الحوراء زينب قد تحمل كل ذلك، وأكملت ذلك الدور العظيم بكل جدارة وشموخ، كان دورها القائدة التي تتسامى على الآلام.

بدأ دور زينب (ع) الإعلامي في التعريف بالثورة وبمظلومية أهل البيت (ع) وإيقاظ الرأي العام ضد طاغية العصر يزيد. فقد كان للجانب البلاغي في خطابات السيدة زينب دوراً واضحاً وكبيراً.

إن ما حدث بعد عاشوراء كان حركة عظيمة بحيث انقلبت الأمور على عكس ما كان يزعمها الحكام في الشام والكوفة، ووجّهت مصير مأساة كربلاء على خلاف تخطيط الظالمين والحاقدين.

فقد قالت في مجلس ابن زياد عندما سألها وقال لها: "كيف رأيت صنع الله بأخيك"؟

قالت: "والله ما رأيت إلا جميلاً، هؤلاء رجال كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم". هذا الأول وهذا الأخير.

يقول الشيخ باقر شريف القرشي في كتابه "السيدة زينب بطلت التاريخ ورائدة الجهاد في الإسلام، (لقد كان من أروع ما خططه الإمام الحسين(ع) في ثورته الكبرى حمله عقيلة بني هاشم وسائر مخدرات الرسالة معه إلى العراق،فقد كان على علم بما يجري عليهن من النكبات والخطوب، وما يقمن به من دور مشرف في إكمال نهضته وإيضاح تضحيته وإشاعة مبادئه وأهدافه، وقد قمن حرائر النبوة بإيقاظ المجتمع من سباته، وأسقطن هيبة الحكم الأموي، وفتحن باب الثورة عليه، فقد ألقين من الخطب الحماسية ما زعزع كيان الدولة الأموية)(1).


ويقول الدكتور أحمد محمود صبحي: (ثم رفض ـ يعني الحسين(ع) إلا أن يصحب معه أهله ليشهد الناس على ما يقترفه أعداؤه مما لا يبرره دين ولا وازع من إنسانية، فلا تضيع قضيته مع دمه في الصحراء، فيفترى عليه أشدّ الافتراء حين يعدم الشاهد العادل، على ما جرى بينه وبين أعدائه، تقول الدكتورة بنت الشاطى:أفسدت زينب أخت الحسين على ابن زياد وبني أمية لذة النصر وسكبت قطرات من السم الزعاف في كؤوس الظافرين، وأن كل الأحداث السياسية‏التي ترتبت بعد ذلك من خروج المختار وثورة ابن زبير وسقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية، ثم تأصل مذهب الشيعة إنما كانت زينب هي باعثة ذلك ومثيرته.(2)

ويقول الدكتور علي شريعتي، نعم! لكل ثورة وجهان: "الدم" و"الرسالة". أما الرسالة فقد أدّاها "الحسين" وأصحابه، وكان أداؤها بالدم، فوصل إلى مسامع العالم صوت الدم ونداء الأجساد الهامدة بين "الأموات المتحركين"!!

واجب أدائها على عاتق امرأة رقيقة تركت منزل زوجها وأسرعت تحثّ الخطى خلف أخيها في رحلته إلى الدم والشهادة

أما الرسالة الثانية فكان واجب أدائها على عاتق امرأة رقيقة تركت منزل زوجها وأسرعت تحثّ الخطى خلف أخيها في رحلته إلى الدم والشهادة!...

تلك المرأة النبيلة العظيمة هي: "زينب". المرأة التي تعلّم الرجال من سيرتها معاني الرجولة. ولقد كان واجب "زينب" وكان مسؤوليتها التاريخية الكبرى هي إكمال الرسالة وإتمام المسيرة.

فالآن وبعدما أقدم الأبطال على أمر عظيم هو اختيار الموت، كانت مهمة من تبقّى بعدهم أشق وأصعب. ولقد بقيت "زينب" ووراءها قافلة من الأسرى وأمامها صفوف العدو تملأ الأفق وتسد طريقها.

بقيت "زينب" وحدها تحمل على عاتقها رسالة أخيها. لقد غادرت الساحة تاركة خلفها حدائق الشهادة الحمراء، ساطع من أكمامها عطر الورد الأحمر، فدخلت مدينة الجريمة، عاصمة القهر والقسوة، وهناك رفعت صوتها المدوي!..

ويقول شريعتي، إن ما أحب أن أقوله بعبارة موجزة حول رسالة زينب بعد الشهادة فهو: إن الذين مضوا كان عملهم حسينياً... والذين هم أحياء ينبغي أن يكون عملهم زينبياً... وإلا فهم يزيديون.

زينب حملت الرسالة الإعلامية للنهضة الحسينية، فكانت نعم الرسول ونعم المدافع عن تلك الثورة.

المرقد الخالد


ولم يطل العمر بزينب فقد توفّيت بعد سنة ونصف من فاجعة كربلاء في الخامس عشر من رجب عام (62) من الهجرة، واختلف المؤرِّخون في خروجها إلى مصر وفي الموضع الذي توفّيت ودفنت فيه. فذهب بعضهم إلى أنّها توفيت ودفنت في المدينة المنوّرة ، بعد رجوعها من الشام وهو رأي ضعيف كما يقول بعض المؤرخين.

وذهب آخرون إلى أنّها هاجرت مع زوجها عبد الله بن جعفر إلى الشـام في عام المجاعـة التي حلّت بالمدينـة المنـورة، ليقيموا هناك في أراض زراعية لعبد الله بن جعفر.

واختلفوا في ذلك ، فذهب بعضهم إلى أنّ تلك الهجرة حدثت في عهد يزيد بن معاوية ، وأنّ زينب (ع) امتنعت من الدخول إلى الشام ، وقالت : لا أدخل بلداً كنت قد دخلته مسـبية .. فأقاموا في قرية من قرى الشام فتوفيت فيها ، ودفنت هناك ، وهو موضع قبرها الذي يزار الآن في العاصمة السورية دمشق.

وهناك رأي يقول ان السيدة زينب عليها السلام توفيت ودفنت في العاصمة المصرية القاهرة، فتشير الكتب التاريخية ان ذهاب زينب (ع) إلى مصر جاء بسبب موقف المواجهة الذي تصاعد بين زينب والسلطة الأموية ، جاء في الرواية ما يلي : « ... فدخلت مصر لأيام بقيت من ذي الحجّة ، فاستقبلها الوالي مسلمة بن مخلد الأنصاري في جماعة معه ، فأنزلها داره بالحـمراء ، أقامت به أحد عشر شهراً وبضعة عشر يوماً ، وتوفّيت عشية يوم الأحد لخمسة عشر يوماً مضت من رجب سنة اثنتين وستِّين هجرية، وردت بمخدعها في دار مسلمة المستجدة بالحمراء القصوى ، حيث بساتين عبد الله بن عبد الرحمن الزهري»(3) .


ويؤيِّد أصحاب هذا الرأي أدلّتهم بما نقله ابن عساكر الدمشقي في تاريخه الكبير وابن طولون الدمشقي في الرسالة الزينبية ورواية الرحالة الأندلسي : أبو عبد الله محمّد الكوهيتي الفاسي : روى دخوله القاهرة فقال : «دخلنا مشهد زينب بنت علي فوجدناه داخل دار كبيرة وهو في طرفها البحري يشرف على الخليج ، فنزلنا إليه بدرج ، وعاينا الضريح فوجدنا عليه دربوزاً ، قيل لنا : انّه من القماري ، فاستبعدنا ذلك ، لكن شممنا منه رائحة طيّبة ، ورأينا بأعلى الضريح قبّة بناؤها من الجص ، ورأينا في صدر الحجرة ثلاثة محاريب أطولها الذي في الوسـط ، وعلى ذلك كلّه نقـوش غاية في الإتقان ، ويعلو باب الحجرة زليجة قرأنا فيها بعد البسملة : (أنّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً ) هذا ما أمر به عبد الله ووليه أبو تميم أمير المؤمنين الإمام العزيز بالله ، صلوات الله تعالى عليه ، وعلى آبائه الطاهرين ، وأبنائه المكرّمين ، أمر بعـمارة هذا المشهد على مقام السـيِّدة الطاهرة بنت الزهراء البتول زينب بنت الإمام علي بن أبي طالب صلوات الله تعالى عليها وعلى آبائها الطاهرين وأبنائها المكرّمين»(4) .

وهكذا تتعـدّد الروايات في مرقدها الخالد وتبقى زينب (ع) خالدة في قلوب السائرين على نهج محمّد (ص) فكل قلوب المحبين لها مرقد .

فسلام على زينب وعلى العترة الطاهرة من آل الرسول (ع) شهداء الحق ، والدعاة إلى تحرير الأمّة من سـيطرة الطاغوت ، وعبودية الشيطان

وبالرغم من الظلم العظيم الذي تعرّضت له زينـب وذرِّيّة الحسين (ع) ومساعي الحـكّام الظلمـة لمحو آثارهـم ، إلاّ انّ ملايين الناس يفـدون من مختلف بقاع العالم لزيارة مرقد السيِّدة زينب (ع) ، إعظاماً وتخليداً لذكرها ونهجها الخالد . فسلام على زينب وعلى العترة الطاهرة من آل الرسول (ع) شهداء الحق ، والدعاة إلى تحرير الأمّة من سـيطرة الطاغوت ، وعبودية الشيطان .

وإذا لم يكن هناك أثر نقلي يتحدّث عن قبر للسيدة زينب الكبرى في المدينة المنورة ولا يوجد مقام ظاهر ينسب لها هناك ، فإنّ الأمر ليس كذلك فيما يرتبط بمصر والشام ، حيث توجد روايات ونصوص تاريخية يستدلّ بها أنصار كلّ من الرأيين ، كما يتعالى في سماء القاهرة ودمشق مقامان شامخان ينسبان للسيدة زينب ، وتؤمّهما جماهير المؤمنين ويقصدهما الزائرون.

لكنّ المطالعة الدقيقة والبحث الموضوعي في أدلّة الطرفين يرجّح كفّة الاطمئنان إلى أنّ مشهد الراوية في دمشق هو الأقرب إلى الصحّة والواقع، وذلك لتضافر وكثرة الأدّلة والقرائن في كتب المؤرخين والرحّالة والسّائحين منذ القرون السابقة وإلى الآن.


أليك يا أم الشموخ والصبر والشجاعة والإيثار أهدي السلام والتحية.

يقع مقام السيدة زينب (عليها السلام) في الجهة الشرقية الجنوبية على بعد سبعة كيلومترات من دمشق، وقد أصبحت المنطقة تعرف كلها باسم السيدة زينب (عليها السلام) وهي تزدهر بنورها وترى اليوم في مقامها المقدس كثرة الزوار من مختلف بلاد العالم يتبركون بها وبمرقدها.

والمقام يشتمل على ضريح فضي وقبة مذهبة و مئذنتين شامختين وأروقة مزخرفة بالزخارف الإسلامية والآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة.

أليك يا أم الشموخ والصبر والشجاعة والإيثار أهدي السلام والتحية.

المصادر:

1ـ باقر شريف القرشي/ السيدة زينب، بطلة التاريخ ورائدة الجهاد في الإسلام، ص 208.

2ـ بطلة كربلاء/ 617 و 180/ نقلاً عن باقر شريف القرشي، ص 209.

3 ـ الشيخ جعفر النقدي : زينب الكبرى ، ص 122 .

4 ـ الشيخ جعفر النقدي : زينب الكبرى ، ص 124 .